رؤية استراتيجية لحل أزمة التوظيف

 

 

 

حمود بن سعيد البطاشي

 

في ظل ما تشهده الساحة المحلية من ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل؛ سواء من الخريجين الجدد أو المُسرَّحين من وظائفهم، تبرُز الحاجة الملحة إلى إيجاد حلول جذرية ومستدامة لهذه القضية. إننا في عُمان بلدٌ حباه الله بالخيرات الوفيرة من موارد طبيعية، وموقع استراتيجي، وثروات بحرية وزراعية ومعدنية، إضافة إلى إرث حضاري وشباب طموح، لكن هذه المقومات تحتاج إلى إدارة خلاقة، وخبرات عملية، ورؤية اقتصادية شاملة لتحويلها إلى فرص عمل حقيقية.

المطلوب اليوم ليس فقط معالجة المشكلة بشكل إسعافي مؤقت؛ بل وضع خطة استراتيجية متكاملة؛ تقوم على 3 محاور: التوظيف المباشر، وتمكين العمل الحر، وتطوير القطاعات الواعدة.

 

أولًا: التوظيف المباشر عبر الإحلال الذكي:

هناك مهن ووظائف يشغلها وافدون منذ سنوات طويلة، في قطاعات يمكن أن تدار بكفاءة على أيدي عُمانيين، خاصة في المجالات الإدارية، والمالية، والفنية، والرقابية. المطلوب هنا ليس مجرد استبدال موظف بآخر؛ بل إعداد برامج إحلال ذكي تبدأ بتدريب العُمانيين على المهارات المطلوبة، وإعطائهم حوافز لتشجيعهم على الاستمرار في هذه الوظائف.

كما يمكن تفعيل نظام "التدرج الوظيفي"، بحيث يُعطى الباحث عن عمل فترة تدريب مدفوعة الأجر لمدة 6 أشهر، ثم يتم تعيينه رسميًا إذا أثبت كفاءته. هذه الخطوة ستقلل من تردد المؤسسات الخاصة في التوظيف، وتفتح المجال لآلاف الفرص الجديدة.

 

ثانيًا: تمكين العمل الحر والمشاريع الصغيرة

عُمان عامرة بالخيرات والفرص، لكنَّ كثيرًا من الشباب لا يجدون طريقًا للوصول إليها بسبب نقص التمويل أو غياب الإرشاد. هنا يجب أن تتبنى الحكومة خطة تمويل واحتضان للمشاريع متناهية الصغر والصغيرة، خصوصًا في القطاعات الزراعية، والصناعات الغذائية، والصيد البحري، والسياحة الريفية، والحرف التقليدية.

ويمكن إنشاء "صناديق تمويل مُيسَّرة" تمنح قروضًا بفوائد رمزية أو بلا فوائد، مع فترة سماح لا تقل عن سنتين، مع توفير دورات تدريبية على إدارة المشاريع والتسويق.

كما ينبغي استحداث "مراكز أعمال" في كل ولاية، تكون بمثابة حاضنات للمشاريع، تقدم للشباب المكان، والمعدات، والخدمات الإدارية، مقابل رسوم رمزية، حتى يتمكنوا من الانطلاق دون عبء الإيجارات المرتفعة.

 

ثالثًا: تطوير القطاعات الواعدة

نمتلك في عُمان قطاعات اقتصادية يمكنها استيعاب عشرات الآلاف من الوظائف إذا تم تطويرها وإدارتها باحترافية، ومنها:

1. القطاع السياحي:

لدينا سياحة طبيعية، وثقافية، وتراثية، وبحرية، يمكن أن تتحول إلى صناعة قوية إذا تم استثمارها بشكل علمي، عبر تشجيع إقامة المنتجعات الصغيرة، ومسارات السياحة البيئية، والرحلات البحرية، والمهرجانات الثقافية.

2. القطاع البحري:

الصيد وتربية الأحياء المائية، وتصنيع وتصدير المنتجات البحرية، يمكن أن يوفر آلاف الوظائف إذا دعمناه بالتقنيات الحديثة ومصانع المعالجة والتعبئة.

 

3. القطاع الزراعي والغذائي:

الاستثمار في الزراعة الذكية، وزراعة المحاصيل ذات القيمة الاقتصادية العالية، وإنشاء مصانع تحويلية للتمور والفواكه والخضراوات، سيخلق فرص عمل ويعزز الأمن الغذائي.

4. القطاع اللوجستي والصناعي:

موقع عُمان الاستراتيجي يجعلها مؤهلة لتكون مركزًا لوجستيًا عالميًا، بشرط تسهيل الإجراءات للمستثمرين وتطوير المناطق الصناعية.

 

رابعًا: إصلاح بيئة سوق العمل

الحلول لا تكتمل دون إصلاحات تشريعية وإدارية تعزز من جاذبية سوق العمل للمواطن، ومن ذلك: إعادة النظر في الحد الأدنى للأجور بما يتناسب مع تكاليف المعيشة، وتوفير التأمين ضد التعطل عن العمل للمُسرَّحين، حتى يجدوا فرصة جديدة، وتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتخفيض الرسوم، وتشديد الرقابة على المؤسسات التي تتحايل على قرارات التعمين.

 

خامسًا: دور الخبراء والاستشاريين

هذه الخيرات والفرص لن تتحول إلى وظائف إلّا عبر عقول خبيرة تعرف كيف تضع الخطط وتتابع تنفيذها. لذلك يجب الاستعانة بخبراء اقتصاديين وإداريين من الداخل والخارج، مع إعطاء الأولوية للكفاءات الوطنية، ووضع مؤشرات أداء واضحة لكل مشروع حتى لا تبقى الحلول على الورق.

 

ختامًا.. إنَّ قضية الباحثين عن عمل والمُسرَّحين ليست مشكلة أفراد؛ بل قضية وطنية تَمَسُ استقراره الاجتماعي والاقتصادي. ومع أن التحديات كبيرة، إلّا أن الحلول موجودة بين أيدينا إذا أحسنا التخطيط والتنفيذ. عُمان بلد الخيرات، لكنها تحتاج إلى إدارة مواردها بعقلية اقتصادية عصرية، تستثمر كل فرصة وتفتح كل باب أمام شبابها.

ولعلَّنا إذا بدأنا اليوم بخطوات جادة ومدروسة، سنجدُ بعد سنوات قليلة أن هذه المشكلة تحوَّلت إلى قصة نجاح نفتخرُ بها أمام العالم.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة